فصل: الْإِيمَانُ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (نسخة منقحة)



.وَمِنْهَا التَّأَهُّبُ لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ:

وَمِنْهَا-وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ- التَّأَهُّبُ لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِمَا بَعْدَهُ قَبْلَ حُصُولِهِ وَالْمُبَادَرَةُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالسَّعْيِ النَّافِعِ قَبْلَ دُهُومِ الْبَلَاءِ وَحُلُولِهِ، إِذْ هُوَ الْفَيْصَلُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّارِ وَبَيْنَ دَارِ الْقَرَارِ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ سَاعَةِ الْعَمَلِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَالْحَدُّ الْفَارِقُ بَيْنَ أَوَانِ تَقْدِيمِ الزَّادِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَهُ لِأَحَدٍ مِنْ مُسْتَعْتِبٍ وَلَا اعْتِذَارٍ، وَلَا زِيَادَةٍ فِي الْحَسَنَاتِ وَلَا نَقْصٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَلَا حِيلَةٍ وَلَا افْتِدَاءٍ وَلَا دِرْهَمٍ وَلَا دِينَارٍ وَلَا مَقْعَدٍ وَلَا مَنْزِلٍ إِلَّا الْقَبْرَ وَهُوَ إِمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَجَمْعِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَالْمَوْقِفِ الطَّوِيلِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوِيِّ الْمَتِينِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الْمُقْسِطِ الْعَدْلِ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يَحِيفُ وَلَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، ثُمَّ إِمَّا نُعَيْمٌ مُقِيمٌ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَإِمَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي نَارِ الْجَحِيمِ، وَإِنَّ لِكُلِّ ظَاعِنٍ مَقَرًّا وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرًّا وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100]، الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الْحَشْرِ: 18]، الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 9-11]. {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشُّورَى: 44]، وَهَذَا سُؤَالُهُمُ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَكَذَلِكَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 44]، الْآيَاتِ.
وَكَذَلِكَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ إِذَا وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وَرَأَوْا مَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْأَهْوَالِ وَشَدِيدِ الْأَنْكَالِ وَالْمَقَامِعِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ الطِّوَالِ وَمَا لَا يَصِفُهُ عَقْلٌ وَلَا يُعَبِّرُ عَنْهُ مَقَالٌ وَلَا يُغْنِي بِالْخَبَرِ عَنْهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الْأَنْعَامِ: 27، 28]، الْآيَاتِ، وَكَذَلِكَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ إِذَا وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ وَعُرِضُوا عَلَيْهِ وَهُمْ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السَّجْدَةِ: 12]، الْآيَاتِ، وَكَذَلِكَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ وَهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْجَحِيمِ وَعَذَابِهَا الْأَلِيمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فَاطِرٍ: 37]، الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غَافِرٍ: 11]، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَيَجْمَعُ كُلَّ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 53]، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ» قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ نَزَعَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ فَلَمْ يَفْعَلْ، سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ. فقال رجل: يا ابن عَبَّاسٍ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الكفار فقال: سأتلو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 10، 11].
قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ؟ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الْمَالُ مِائَتَيْنِ فَصَاعِدًا قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالْبَعِيرُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99].
قَالَ: كَانَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: لِيُنْزِلْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَاسْتَقَالَ رَبَّهُ فَأَقَالَهُ فَلْيَعْمَلْ بِطَاعَةِ رَبِّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا تَمَنَّى إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَانْظُرُوا أُمْنِيَةَ الْكَافِرِ الْمُفَرِّطِ فَاعْمَلُوا بِهَا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا وُضِعَ-يَعْنِي الْكَافِرَ- فِي قَبْرِهِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ قَالَ: فَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ أَتُوبُ وَأَعْمَلُ صَالِحًا قَالَ: فَيُقَالُ: قَدْ عَمَّرْتَ مَا كُنْتَ مُعَمَّرًا.
قَالَ: فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ وَيَلْتَئِمُ فَهُوَ كَالْمَنْهُوشِ يَنَامُ، أَوْ يَفْزَعُ تَهْوِي إِلَيْهِ هَوَامُّ الْأَرْضِ وَحَيَّاتُهَا وَعَقَارِبُهَا.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي، فَتَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً قَالَ: وَكُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي قَالَ: فَيَكُونُ لَهُمُ الشُّكْرُ» وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا» إِلَى: «فَقْرٍ مُنْسٍ» الْحَدِيثَ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ».
وَلِلْحَاكِمِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ». يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَ: أَيَّامَ الشَّبَابِ وَالصِّحَّةِ وَالْغِنَى وَالْفَرَاغِ وَالْحَيَاةِ هِيَ أَيَّامُ الْعَمَلِ وَالتَّأَهُّبِ وَالِاسْتِعْدَادِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الزَّادِ، فَمَنْ فَاتَهُ الْعَمَلُ فِيهَا لَمْ يُدْرِكْهُ عِنْدَ مَجِيءِ أَضْدَادِهَا، وَلَا يَنْفَعْهُ التَّمَنِّي لِلْأَعْمَالِ بَعْدَ التَّفْرِيطِ مِنْهُ وَالْإِهْمَالِ فِي زَمَنِ الْفُرْصَةِ وَالْإِمْهَالِ فَإِنَّ بَعْدَ كُلِّ شَبَابٍ هَرَمًا وَبَعْدَ كُلِّ صِحَّةٍ سَقَمًا وَبَعْدَ كُلِّ غِنًى فَقْرًا وَبَعْدَ كُلِّ فَرَاغٍ شُغْلًا وَبَعْدَ كُلِّ حَيَاةٍ مَوْتًا، فَمَنْ فَرَّطَ فِي الْعَمَلِ أَيَّامَ الشَّبَابِ لَمْ يُدْرِكْهُ فِي أَيَّامِ الْهَرَمِ، وَمَنْ فَرَّطَ فِيهِ فِي أَوْقَاتِ الصِّحَّةِ لَمْ يُدْرِكْهُ فِي أَوْقَاتِ السَّقَمِ، وَمَنْ فَرَّطَ فِيهِ فِي حَالَةِ الْغِنَى فَلَمْ يَنَلِ الْقُرَبَ الَّتِي لَمْ تُنَلْ إِلَّا بِالْغِنَى لَمْ يُدْرِكْهُ فِي حَالَةِ الْفَقْرِ، وَمَنْ فَرَّطَ فِيهِ فِي سَاعَةِ الْفَرَاغِ لَمْ يُدْرِكْهُ عِنْدَ مَجِيءِ الشَّوَاغِلِ، وَمَنْ فَرَّطَ فِي الْعَمَلِ فِي زَمَنِ الْحَيَاةِ لَمْ يُدْرِكْهُ بَعْدَ حَيْلُولَةِ الْمَمَاتِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ وَقَدْ فَاتَ وَيَطْلُبُ الْكَرَّةَ وَهَيْهَاتَ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَعَظُمَتْ حَسَرَاتُهُ حِينَ لَا مَدْفَعَ لِلْحَسَرَاتِ.
وَلَقَدْ حَثَّنَا اللَّهُ-عَزَّ وَجَلَّ- أَعْظَمَ الْحَثِّ وَحَضَّنَا أَشَدَّ الْحَضِّ وَدَعَانَا إِلَى اغْتِنَامِ الْفُرَصِ فِي زَمَنِ الْمُهْلَةِ وَأَخْبَرَنَا أَنَّ مَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ تَمَنَّاهُ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِذْ يَقُولُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ دَاعِيًا عِبَادَهُ إِلَى بَابِهِ، يَا مَنْ يُسْمَعُ صَرِيحُ خِطَابِهِ وَيُتَأَمَّلُ لَطِيفُ عِتَابِهِ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزُّمَرِ: 53-59]، الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الرُّومِ: 43]، الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشُّورَى: 47]، الْآيَاتِ، وَغَيْرُهَا.

.الْإِيمَانُ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ:

وَمِنْهَا الْإِيمَانُ بِـ (مَا) الَّذِي (مِنْ بَعْدِهِ) أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ (عَلَى الْعِبَادِ حَتْمًا) مِنْ أَحْوَالِ الِاحْتِضَارِ إِلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ وَيَسْتَقِرَّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَنَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ التَّقْدِيرِ عَلَى كُلِّ أَمْرِ مِنْهَا فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الْآتِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وهذا أَوَّلُهَا:
وَإِنَّ كل مقعد مسئول ** مَا الرَّبُّ مَا الدِّينُ وَمَا الرَّسُولُ

وَعِنْدَ ذَا يُثَبِّتُ الْمُهَيْمِنُ ** بِثَابِتِ الْقَوْلِ الَّذِينَ آمَنُوا

وَيُوقِنُ الْمُرْتَابُ عِنْدَ ذَلِكَ ** بِأَنَّمَا مَوْرِدُهُ الْمَهَالِكُ

.إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ:

فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ إِثْبَاتُ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ إِثْبَاتُ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ وَعَذَابِهِ وَنَعِيمِهِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِذَلِكَ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ كِتَابًا وَسُنَّةً وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَأَضْرَابُهُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَحَمَلُوا عَلَى فَاسِدِ فَهْمِهِمْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدُّخَانِ: 56]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فَاطِرٍ: 22].
قَالُوا فِي الْآيَةِ الْأُولَى: لَوْ صَارُوا أَحْيَاءً فِي الْقُبُورِ لَذَاقُوا الْمَوْتَ مَرَّتَيْنِ لَا مَوْتَةً وَاحِدَةً وَقَالُوا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ الْغَرَضَ مِنْ سِيَاقِهَا تَشْبِيهُ الْكَفَرَةِ بِأَهْلِ الْقُبُورِ فِي عَدَمِ الْإِسْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ حَيًّا فِي قَبْرِهِ أَوْ حَاسًّا لَمْ يَسْتَقِمِ التَّشْبِيهُ.
قَالُوا: وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّا نَرَى شَخْصًا يُصْلَبُ وَيَبْقَى مَصْلُوبًا إِلَى أَنْ تَذْهَبَ أَجْزَاؤُهُ وَلَا نُشَاهِدُ فِيهِ إِحْيَاءً وَمَسْأَلَةً وَالْقَوْلُ لَهُمْ بِهِمَا مَعَ الْمُشَاهَدَةِ سَفْسَطَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَبْلَغُ مِنْهُ مَنْ أَكَلَتْهُ السِّبَاعُ وَالطُّيُورُ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي بُطُونِهَا وَحَوَاصِلِهَا، وَأَبْلَغُ مِنْهُ مَنْ أُحْرِقَ حتى يفتت وذريت أَجْزَاؤُهُ الْمُتَفَتِّتَةُ فِي الرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ شَمَالًا وَجَنُوبًا وَقُبُولًا وَدُبُورًا فَإِنَّا نَعْلَمُ عَدَمَ إِحْيَائِهِ وَمَسْأَلَتِهِ وَعَذَابِهِ ضَرُورَةً.
هَذِهِ خُلَاصَةُ شُبَهِهِمِ الدَّاحِضَةِ وَمُحَصِّلَةُ آرَائِهِمُ الْكَاسِدَةِ وَأَفْهَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَأَذْهَانِهِمُ الْبَائِدَةِ وَلَا عَجَبَ وَلَا اسْتِغْرَابَ مِمَّنْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَجَحَدَ مَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ، وَرَدَّ مَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ، وَحَكَّمَ الْعَقْلَ فِي الشَّرْعِ وَعَارَضَ الْوَحْيَ الرَّحْمَانِيَّ بِالْحَدْسِ الشَّيْطَانِيِّ، وَقَدَّمَ الْآرَاءَ السَّقِيمَةَ عَلَى السُّنَنِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَآثَرَ الْأَهْوَاءَ الذَّمِيمَةَ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْقَوِيمَةِ فَلَيْسَ بِعَجِيبٍ وَلَا غَرِيبٍ مِمَّنْ هَذَا شَأْنُهُ أَنْ يُنْكِرَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَغَيْرَهُ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يُشَاهِدُهَا، وَمَا لَهُ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانَ إِلَّا هَذَا الْجِسْمَ الَّذِي هُوَ الْجِلْدُ وَاللَّحْمُ وَالْعَظْمُ وَالْعُرُوقُ وَالْأَعْصَابُ وَالشَّرَايِينُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَمْتَلِئُ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فيه ويخلو بقلتهما عَلَيْهِ وَمَا لَهُ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يُقِرُّ بِمَوْجُودٍ إِلَّا مَسْمُوعًا مُتَكَلِّمًا بِهِ مُبْصِرًا مَشْمُومًا مَلْمُوسًا، وَمَا لَهُ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ وَطَرِيقَتُهُ فِي النُّصُوصِ أَبَدًا تَأْوِيلُ الصَّرِيحِ وَتَضْعِيفُ الصَّحِيحِ وَأَنَّهَا آحَادٌ ظَنِّيَّةٌ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ وَلَيْسَتْ بِأَصْلٍ بِزَعْمِهِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. وَلَا ذَنْبَ لِلنُّصُوصِ وَمَا نَقَمَ مِنْهَا إِلَّا أَنَّهَا خَالَفَتْ هَوَاهُ وَصَرَّحَتْ بِنَقْضِ دَعْوَاهُ وَسَدَّتْ عَلَيْهِ بَابَ مَغْزَاهُ وَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِ نَبْذَ أَقْوَالِ شُيُوخِهِ وَهَدَمَتْ عَلَيْهِ مَا قَدْ بَنَاهُ، وَأَلْزَمَتْهُ بِاطِّرَاحِ كُلِّ قَوْلٍ غَيْرِ مَا قَالَهُ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَادَتْ عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ صَوْتٍ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشُّورَى: 21].
وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى مُدَّعَاهُمْ بِوَجْهٍ، فَإِنَّهَا فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ كَمَالِ النَّعِيمِ وَالْخُلْدِ الْمُقِيمِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ بَلْ يَنْعَمُونَ وَلَا يَبْأَسُونَ وَيُخَلَّدُونَ فَلَا يَمُوتُونَ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ نَفْيِ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي ادَّعَوْهُ، وَقَوْلُهُ: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدُّخَانِ: 56]، تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ الْمَوْتِ عَنْهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِ الرُّوحِ تَتَّصِلُ بِالْجَسَدِ فِي الْبَرْزَخِ اتِّصَالًا خَاصًّا لِيَتَأَلَّمَ الْجَسَدُ بِمَا يَتَأَلَّمُ بِهِ مِنْ دُونِ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ كَالْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، بَلْ مَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِهَا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لَا تُشْبِهُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْهَا فَحَجَبَ اللَّهُ تَعَالَى رُؤْيَةَ ذَلِكَ عَنْ عِبَادِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ مِنَ الْإِقْعَادِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ كِفَاحًا كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْفَتْحِ لِبَابِ الْجَنَّةِ لِلْمُؤْمِنِ وَفُرُشِهِ مِنْهَا، وَفَتْحِ بَابِ النَّارِ لِلْمُرْتَابِ وَقَمْعِهِ بِالْمَطَارِقِ وَالْمَرَازِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَسْطُهُ.
وَأَيْضًا فَأَهْلُ الْجَنَّةِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدُّخَانِ: 56]. وقد وَرَدَتْ فِيهِمُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ، كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ»، وَفِيهِمُ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 154]، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} فَهَلْ شَعَرْتُمْ بِذَلِكَ يَا مُعَاشِرَ الزَّنَادِقَةِ دُونَهُمْ؟ وَيَقُولُ تَعَالَى فِيهِمْ: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 169]، الْآيَاتِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غَافِرٍ: 11]، وَالْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ هِيَ مَوْتَتُهُمْ بَعْدَ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَتَفْسِيرُ الْجُمْهُورِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا الْمَوْتَةَ الْأُولَى عَلَى الْعَدَمِ الَّذِي قَبْلَ وُجُودِهِمْ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَعُدُّوا نَوْمَتَهُمْ بَعْدَ الْفِتْنَةِ فِي الْقَبْرِ مَوْتَةً مُسْتَقِلَّةً؛ لِأَنَّ حَالَ الْبَرْزَخِ مِنَ الْمَوْتَةِ الثَّانِيَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا وَلَا دَارِ الْآخِرَةِ بَلْ هُوَ حَاجِزٌ بينهما، والتفسير الأول مَحْمُولٍ عَلَى مَوْتَتَيْنِ بَعْدَ الْوُجُودِ خَلَا حَالَةِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ قَبْلَ إِيجَادِهِمْ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا وُضِعَ-يَعْنِي الْكَافِرَ- فِي قَبْرِهِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ قَالَ: فَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ أَتُوبُ وَأَعْمَلُ صَالِحًا قَالَ: فَيُقَالُ: قَدْ عُمِّرْتَ مَا كُنْتَ مُعَمَّرًا قَالَ: فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ وَيَلْتَئِمُ فَهُوَ كَالْمَنْهُوشِ يَنَامُ وَيَفْزَعُ تَهْوِي إِلَيْهِ هَوَامُّ الْأَرْضِ وَحَيَّاتُهَا وَعَقَارِبُهَا.
وَعَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فَاطِرٍ: 22]، نَفْيٌ لِاسْتِطَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْمِعَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَالٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ أَنْ يُسْمِعَهُمْ كَمَا أَسْمَعَ أَهْلَ الْقَلِيبِ تَبْكِيتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» الْحَدِيثَ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا إِذَا حُمِلَ عَلَى نَفْيِ مُطْلَقِ السَّمَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ مُطْلَقَ السَّمَاعِ وَإِنَّمَا نَفَى سَمَاعَ الِاسْتِجَابَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْقَلِيبِ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَ» وَبِهَذَا يَتَّضِحُ تَشْبِيهُ الْكُفَّارِ بِهِمْ فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَسْمَعُونَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِسَمَاعِ اسْتِجَابَةٍ؛ وَلِهَذَا أَثْبَتَ تَعَالَى هَذَا السَّمَاعَ الظَّاهِرَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الْجَاثِيَةِ: 8]، وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَسْمَعُوا مُطْلَقًا لَا سَمَاعَ اسْتِجَابَةٍ وَلَا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنِ الرَّسُولُ بَلَّغَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ وَلَا أَفْسَدَ مِنْ قَوْلٍ هَذَا لَازِمُهُ.
وَأَمَّا شُبْهَتُهُمُ الْعَقْلِيَّةُ: فَهِيَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِعُقُولِهِمُ السَّخِيفَةِ، فَإِنَّ الرُّوحَ الَّتِي عَلَيْهَا الْعَذَابُ أَوِ النَّعِيمُ الْمُتَّصِلُ بِالْجِسْمِ أَلَمُهُ لَيْسَ بِمُدْرَكٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ رُوحَ مَنْ يَمْشِي مَعَهُ وَيُكَلِّمُهُ وَيَأْتَمِنُهُ وَيُعَامِلُهُ فَكَيْفَ يُدْرِكُهُ إِذَا صَارَ من عَالَمِ الْآخِرَةِ لَيْسَ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا؟ وَأَيْضًا فَاحْتِجَابُ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْبَالِغَةِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ» وَأَيْضًا فَأَكْثَرُ أُمُورِ الْإِيمَانِ اعْتِقَادَاتٌ بَاطِنَةٌ مِنَّا لِأُمُورٍ غَائِبَةٍ عَنَّا وَهِيَ أَعْلَى صِفَاتِ أَهْلِ الْإِيمَانِ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [الْبَقَرَةِ: 3]، وَذَلِكَ غَائِبٌ عَنَّا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ عَنِ اللَّهِ عِلْمَ الْيَقِينِ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ صَارَ الْغَيْبُ شَهَادَةً وَرَأَيْنَا ذَلِكَ عَيْنَ الْيَقِينِ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يُونُسَ: 39]، وَالَّذِي أُحْرِقَتْ أَعْضَاؤُهُ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ يَجْمَعُهُ الَّذِي أَبْدَأَهُ مَنْ لَا أَجْزَاءَ وَلَا أَعْضَاءَ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ كَذَّبَ بِجَمْعِ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ كَذَّبَ بِجَمْعِ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الْأَعْرَافِ: 39]، الْآيَةَ. فَيَا أَيُّهَا الطَّالِبُ الْحَقَّ الْمُتَحَرِّي الْإِنْصَافَ، إِلَيْكَ نُصُوصَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ وَالسُّنَنِ الْقَائِمَةِ، فَأَلْقِ لَهَا سَمْعَكَ وَأَحْضِرْ قَلْبَكَ وَانْظُرْ بِمَاذَا عَارَضَهَا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ وَكَيْفَ تَتَبَّعُوا مَا تَشَابَهَ، وَأَعْرَضُوا عَنِ الْمُحْكَمِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، فَرَدُّوا الْمُحْكَمَ بِالْمُتَشَابِهِ وَلَمْ يَرُدُّوا عِلْمَ مَا غَرِبَ عَنْهُمْ عِلْمُهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَأَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى إِذْ هَدَاكَ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَوَفَّقَكَ لِمَا انْحَرَفُوا عَنْهُ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَقُلْ كَمَا قَالَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آلِ عِمْرَانَ: 8].
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الْأَنْعَامِ: 93]، الْآيَةَ.
قَالَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الْأَنْعَامِ: 93]، أَيْ: إِلَيْهِمْ بِالضَّرْبِ وَالنَّكَالِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى تَخْرُجَ أَنْفُسُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ لَهُمْ: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الْأَنْعَامِ: 93]، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتَضَرَ بَشَرَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ وَالْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ وَغَضَبِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَتُفَرَّقُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَتَعْصِي وَتَأْبَى الْخُرُوجَ فَتَضْرِبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَخْرُجَ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ قَائِلِينَ لَهُمْ: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [الْأَنْعَامِ: 93]، أَيِ: الْيَوْمِ تُهَانُونَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ كَمَا كُنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ وَتَسْتَكْبِرُونَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ وَالِانْقِيَادِ لِرُسُلِهِ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ كَيْفِيَّةُ احْتِضَارِ الْمُؤْمِنِ، وَالْكَافِرِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَفْعَلُ بِهِ هَذَا وَهُوَ مُحْتَضِرٌ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ أَهْلِهِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ وَهُمْ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَلَا يَدْرُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ مُجَرَّدَ احْتِضَارِهِ وَسِيَاقِ نَفْسِهِ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا يُقَاسُونَ الشَّدَائِدَ، فَلِأَنْ يُفْعَلَ بِهِ فِي قَبْرِهِ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ مِنْهُ وَلَا يَعْلَمُهُ مَنْ كَشَفَ عَنْهُ أَوْلَى وَأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا يَنَالُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَكَيْفَ وَقَدِ انْتَقَلَ إِلَى عَالَمٍ غَيْرِ عَالَمِهِمْ وَدَارٍ غَيْرِ دَارِهِمْ، فَلَا بُدَّ لِلْمُخَالِفِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْمُحْتَضِرِ فَيُلْزِمُهُمْ مَا وَرَدَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ يَجْحَدُ هَذَا وَهَذَا، فَيَكْفُرُ بِتَكْذِيبِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَبَشَّرَهُ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا صَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ الْمُكَذِّبُونَ.
وَقَالَ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إِبْرَاهِيمَ: 27]، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصُّهَا فِي عَذَابِ الْقَبْرِ بِصَرِيحِ الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ وَبِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْبِيتِ هُوَ عِنْدَ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ ذَاكَ اعْتِمَادًا عَلَى كَوْنِهِ لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ فَقَدْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99]. روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا قَالَتْ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ حَيَّاتٌ سُودٌ-أَوْ دُهْمٌ- حَيَّةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ وَحَيَّةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، يَقْرُصَانِهِ حَتَّى يَلْتَقِيَا فِي وَسَطِهِ، فَذَلِكَ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99]. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا، وَسَيَأْتِي الْأَحَادِيثُ فِيهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غَافِرٍ: 11]، ذَكَرَ الْعَيْنِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَابِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَوْتَةَ مَرَّتَيْنِ، وَهُمَا لَا تَتَحَقَّقَانِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْقَبْرِ حَيَاةٌ وَمَوْتٌ، حَتَّى تَكُونَ إِحْدَى الْمَوْتَتَيْنِ مَا يَتَحَصَّلُ عَقِيبَ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأُخْرَى مَا يَتَحَصَّلُ عَقِيبَ الْحَيَاةِ الَّتِي في القبر. ا. هـ.
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، حَيْثُ قَالَ: أُمِيتُوا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أُحْيُوا فِي قُبُورِهِمْ فَخُوطِبُوا، ثُمَّ أُمِيتُوا فَأُحْيُوا يوم القيامة. ا. هـ.
وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 28]، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التَّوْبَةِ: 101].
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْقَبْرِ ثُمَّ يَرُدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ، هُوَ عَذَابُ النَّارِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السَّجْدَةِ: 21].
قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْنِي بِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ نُوحٍ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نُوحٍ: 25]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غَافِرٍ: 46].
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ بِهِمْ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءُوا، وَإِنَّ أَرْوَاحَ وِلْدَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ عَصَافِيرَ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، فَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ فِي الْعَرْشِ، وَإِنَّ أَرْوَاحَ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ سُودٍ تَغْدُو عَلَى جَهَنَّمَ وَتَرُوحُ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ عَرْضُهَا.
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الطَّوِيلِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: «ثُمَّ انْطَلَقَ بِي إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رِجَالٍ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ، مُصَفَّدُونَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وَآلُ فِرْعَوْنَ كالإبل المسومة يخبطون الْحِجَارَةَ وَالشَّجَرَ وَلَا يَعْقِلُونَ».
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي قَالَتْ لَهَا: وَقَاكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَهُ: فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا» قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ: «وَإِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ» وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَيُقَالُ: مَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ كَوْنِ الْآيَةِ مَكِّيَّةً وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى عَذَابِ الْبَرْزَخِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى عَرْضِ الْأَرْوَاحِ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا فِي الْبَرْزَخِ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ-يَعْنِي تَامَّةً- عَلَى اتِّصَالِ تَأَلُّمِهَا بِأَجْسَادِهَا فِي الْقُبُورِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالرُّوحِ، فَأَمَّا حُصُولُ ذَلِكَ لِلْجَسَدِ فِي الْبَرْزَخِ وَتَأَلُّمُهُ بِسَبَبِهِ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ إِلَّا السُّنَّةُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْضِيَّةِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى عَذَابِ الْكُفَّارِ فِي الْبَرْزَخِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَذِّبَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ بِذَنْبِهِ. وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا يُفْتَنُ يَهُودُ»، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّ أُمَّتَهُ تُفْتَنُ. والجواب الأول مرجوح لِأَنَّ الْآيَاتِ أَيْضًا صَرِيحَةٌ فِي اتِّصَالِ عَذَابِ الْقَبْرِ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَمَا لَيْسَ صَرِيحًا مِنْهَا فَمُحْتَمَلٌ يُحْمَلُ عَلَى الصَّرِيحِ إذ لم يجئ فِي آيَةٍ تَخْصِيصُهُ بِالرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ وَنَفْيُهُ عَنِ الْجَسَدِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النَّحْلِ: 29]. قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ مِنْ يَوْمِ مَمَاتِهِمْ بِأَرْوَاحِهِمْ، وَيَنَالُ أَجْسَادُهُمْ فِي قُبُورِهَا مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ سَلَكَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ وَخَلَدَتْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فَاطِرٍ: 36]. وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّحْلِ: 32]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الْفَجْرِ: 28].